سورة النمل - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النمل)


        


{فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)}
{وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضاحكا مّن قَوْلِهَا} تفريع على ما تقدم فلا حاجة إلى تقدير معطوف عليه أي فسمعها فتبسم وجعل الفاء فصيحة كما قيل. ولعله عليه السلام إنما تبسم من ذلك سرورًا بما الهمت من حسن حاله وحال جنوده في باب التقوى والشفقة وابتهاجًا بما خصه الله تعالى به من إدراك ما هو همس بالنسبة إلى البشر وفهم مرادها منه.
وجوز أن يكون ذلك تعجبًا من حذرها وتحذيرها واهتدائها إلى تدبير مصالحها ومصالح بني نوعها: والأول أظهر مناسبة لما بعد من الدعاء. وانتصب {ضاحكا} على الحال أي شارعًا في الضحك أعني قد تجاوز حد التبسم إلى الضحك أو مقدر الضحك بناء على أنه حال مقدرة كما نقله الطيبي عن بعضهم. وقال أبو البقاء هو حال مؤكدة وهو يقتضي كون التبسم والضحك عنى والمعروف الفرق بينهما قال ابن حجر. التبسم مبادىء الضحك من غير صوت والضحك انبساط الوجه حتى تظهر الأسنان من السرور مع صوت خفي فإن كان فيه صوت يسمع من بعيد فهو القهقهة، وكان من ذهب إلى اتحاد التبسم والضحك خص ذلك بما كان من الأنبياء عليهم السلام فإن ضحكهم تبسم، وقد قال البوصيري في مدح نبينا صلى الله عليه وسلم:
سيد ضحكه التبسم والم *** شي الهوينا ونومه الإغفاء
وروي البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: ما رأيته صلى الله عليه وسلم مستجمعًا قط ضاحكًا أي مقبلًا على الضحك بكليته إنما كان يتبسم، والذي يدل عليه مجموع الأحاديث ان تبسمه عليه الصلاة والسلام أكثر من ضحكه ورا ضحك حتى بدت نواجذه. وكونه ضحك كذلك مذكور في حديث آخر أهل النار خروجًا منها وأهل الجنة دخولًا الجنة. وقد أخرجه البخاري. ومسلم. والترمذي. وكذا في حديث أخرجه البخاري في المواقع أهله في رمضان، وليس في حديث عائشة السابق أكثر من نفيها رؤيتها إياه صلى الله عليه وسلم مستجمعًا ضاحكًا وهو لا ينافي وقوع الضحك منه في بعض الأوقات حيث لم تره.
وأول الزمخشري ما روي من أنه صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه بأن الغرض منه المبالغة في وصف ما وجد منه عليه الصلاة والسلام من الضحك النبوي وليس هناك ظهور النواجذ وهي أواخر الأضراس حقيقة، ولعله إنما لم يقل سبحانه: فتبسم من قولها بل جاء جل وعلا بضاحكًا نصبًا على الحال ليكون المقصود بالإفادة التجاوز إلى الضحك بناء على أن المقصود من الكلام الذي فيه قيد إفادة القيد نفيًا أو إثباتًا، وفيه إشعار بقوة تأثير قولها فيه عليه السلام حيث اداه ما عراه منه إلى أن تجاوز حد التبسم آخذًا في الضحك ولم يكن حاله التبسم فقط.
وكأنه لما لم يكن قول فضحك من قولها في إفادة ما ذكرنا مثل ما في النظم الجليل لم يؤت به، وفي البحر أنه لما كان التبسم يكون للاستهزاء وللغضب كما يقولون: تبسم تبسم الغضبان وتبسم تبسم المستهزىء وكان الضحك إنما يكون للسرور والفرح أتى سبحانه بقوله تعالى: {ضاحكا} لبيان أن التبسم لم يكن استهزاء ولا غضبًا انتهى.
ولا يخفى أن دعوى أن الضحك لا يكون إلا للسرور والفرح يكذبها قوله تعالى: {إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين ءامَنُواْ يَضْحَكُونَ} [المطففين: 29] فإن هذا الضحك كان من مشركي قريش استهزاء بفقرائهم كعمار. وصهيب. وخباب. وغيرهم كما ذكره المفسرون ولم يكن للسرور والفرح. وكذا قوله تعالى: {فاليوم الذين ءامَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ} [المطففين: 34] كما هو الظاهر. وإن هرعت إلى التأويل قلنا والواقع يكذبها فإن أنكرت ضحك منك أولوا الألباب، وفيه أيضًا غير ذلك فتأمل والله تعالى الهادي إلى صوب الصواب، وقرأ ابن السميقع {ضاحكا} على أنه مصدر في موضع الحال، وجوز أن يكون منصوبًا على أنه مفعول مطلق نحو شكرًا في قولك حمد شكرًا.
{وَقَالَ رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ} أي اجعلني أزع شكر نعمتك أي اكفه وارتبطه لا ينفلت عني وهو مجاز عن ملازمة الشكر والمداومة عليه فكأنه قيل: رب اجعلني مداومًا على شكر نعمتك، وهمزة أوزع للتعدية، ولا حاجة إلى اعتبار التضمين. وكون التقدير رب يسر لي أن أشكر نعمتك وازعا إياه وعن ابن عباس أن المعنى اجعلني أشكر. وقال ابن زيد: أي حرضني. وقال أبو عبيدة أي أو لعني. وقال الزجاج فيما قيل أي ألهمن. وتأويله في اللغة كفني عن الأشياء التي تباعدني عنك. قال الطيبي فعلى هذا هو كناية تلويحية فإنه طلب أن يكفه عما يؤدي إلى كفران النعمة بأن يلهمه ما به تقيد النعمة من الشكر. وإضافة النعمة للاستغراق أي جميع نعمك. وقرئ {أَوْزِعْنِى} بفتح الياء {التى أَنْعَمْتَ} أي أنعمتها، وأصله أنعمت بها إلا أنه اعتبر الحذف والإيصال لفقد شرط حذف العائد المجرور وهو أن يكون مجرورًا ثل ما جربه الموصول لفظًا ومعنى ومتعلقًا، ومن لا يقول باطراد ذلك لا يعتبر ما ذكر ولا أرى فيه بأسًا {عَلَىَّ وعلى وَالِدَىَّ} أدرج ذكر والديه تكثيرًا للنعمة فإن الأنعام عليهما انعام عليه من وجه مستوجب للشكر أو تعميمًا لها فإن النعمة عليه عليه السلام يرجع نفعها إليهما، والفرق بين الوجهين ظاهر، واقتصر على الثاني في الكشاف وهو أوفق بالشكر. وكون الدعاء المذكور بعد وفاة والديه عليهما السلام قطعًا، ورجج الأول بأنه أوفق بقوله تعالى: {اعلموا ءالَ دَاوُودُ شاكرا} [سبأ: 13] بعد قوله سبحانه:{وَلَقَدْ ءاتَيْنَا دَاوُودُ مِنَّا فَضْلًا} [سبأ: 10] الخ، وقوله تعالى: {ولسليمان الريح} [الأنبياء: 81] إلخ فتدبر فإنه دقيق {وَأَنْ أَعْمَلَ صالحا} عطف على {أَنِ اشكر} فيكون عليه السلام قد طلب جعله مداومًا على العمل الصالح أيضًا. وكأنه عليه السلام أراد بالشكر الشكر باللسان المستلزم للشكر بالجنان وأردفه بما ذكر تتمينًا له لأن عمل الصالح شكر بالأركان، وفي البحر أنه عليه السلام سأل أولًا شيئًا خاصًا وهو شكر النعمة وثانيًا شيئًا عامًا وهو عمل الصالح، وقوله تعالى: {ترضياه} قيل صفة مؤكدة أو مخصصة ان أريد به كمال الرضا، واختير كونه صفة مخصصة. والمراد بالرضا القبول وهو ليس من لوازم العمل الصالح أصلًا لا عقلًا ولا شرعًا {ترضاه وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصالحين} أي في جملتهم.
والكلام عن الزمخشري كناية عن جعله من أهل الجنة. وقدر بعضهم الجنة مفعولًا ثانيًا لأدخلني، وعلى كونه كناية لا حاجة إلى التقدير، والداعي لأحد الأمرين على ما قيل دفع التكرار مع ما قبل لأنه إذا عمل عملًا صالحًا كان من الصالحين البتة إذ لا معنى للصالح إلاالعامل عملًا صالحًا، وأردف طلب المداومة على عمل الصالح بطلب ادخاله الجنة لعدم استلزام العمل الصالح بنفسه ادخال الجنة، ففي الخبر «لن يدخل أحدكم الجنة عمله قيل ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله تعالى برحمته» وكأن في ذكر {بِرَحْمَتِكَ} في هذا الدعاء إشارة إلى ذلك.
ولا يأبي ما ذكر قوله تعالى: {تِلْكَ الجنة التى أُورِثْتُمُوهَا بما كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72] لأن سببية العمل للإيراث برحمة الله تعالى.
وقال الخفاجي: لك أن تقول أنه عليه السلام عد نفسه غير صالح تواضعًا أي فلا يحتاج إلى التقدير ولا إلى نظم الكلام في سلك الكناية، ولا يخفى أن هذا لا يدفع السؤال باغناء الدعاء بالمداومة على عمل الصالح عنه.
وقيل: المراد أن يجعله سبحانه في عداد الأنبياء عليهم السلام ويثبت اسمه مع أسمائهم ولا يعز له عن منصب النبوة الذي هو منحة الهية لا تنال بالأعمال ولذا ذكر الرحمة في البين، ونقل الطبرسي عن ابن عباس ما يلوح بهذا المعنى.
وقيل: المراد أدخلني في عداد الصالحين واجعلني اذكر معهم إذا ذكروا، وحاصله طلب الذكر الجميل الذي لا يستلزمه عمل الصالح إذ قد يتحقق من شخص في نفس الأمر ولا يعده الناس في عداد الصالحين. وفي هذا الدعاء شمة من دعاء إبراهيم عليه السلام {واجعل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاخرين} [الشعراء: 84] ومقاصد الأنبياء في مثل ذلك أخروية، وقيل: يحتمل أنه أراد بعمل الصالح القيام بحقوق الله عز وجل وأراد بالصالح في قوله: {فِى عِبَادِكَ الصالحين} القيام بحقوقه تعالى وحقوق عباده فيكون من قبيل التعميم بعد التخصيص وتعيين ما هو الأولى من هذه الأقوال مفوض إلى فكرك والله تعالى الهادي، وكان دعاؤه عليه السلام على ما في بعض الآثار بعد أن دخل النمل مساكنهن، قال في الكشاف: روي أن النملة أحست بصوت الجنود ولا تعلم أنهم في الهواء فمر سليمان عليه السلام الريح فوقفت لئلا يذرعن حتى دخلن مساكنهن ثم دعا بالدعوة.


{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20)}
{وَتَفَقَّدَ الطير} أي أراد معرفة الموجود منها من غيره، وأصل التفقد معرفة الفقد، والظاهر أنه عليه السلام تفقد كل الطير وذلك بحسب ما تقتضيه العناية بأمور الملك والاهتمام بالرعاية لا سيما الضعفاء منها؛ قيل وكان يأتيه من كل صنف واحد فلم ير الهدهد، وقيل: كانت الطير تظله من الشمس وكان الهدهد يستر مكانه الأيمن فمسته الشمس فنظر إلى مكان الهدهد فلم يره، وعن عبد الله بن سلام أن سليمان عليه السلام نزل فازة لا ماء فيها وكان الهدهد يرى الماء في باطن الأرض فيخبر سليمان بذلك فيأمر الجن فتسلخ الأرض عنه في ساعة كما تسلخ الشاة فاحتاجوا إلى الماء فتفقد لذلك الطير فلم ير الهدهد {فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد} وهو طائر معروف منتن يأكل الدم فيما قيل ويكنى بأبي الأخبار. وأبي الربيع. وأبي ثمامة وبغير ذلك مما ذكره الدميري، وتصغيره على القياس هديهد، وزعم بعضهم أنه يقال في تصغيره هداهد بقلب الياء الفاء، وأنشدوا:
كهداهد كسر الرماة جناحه ***
ونظير ذلك دوابه وشوابه في دويبه وشويبه.
والظاهر أن قوله عليه السلام ذلك مبني على أنه ظن حضوره ومنع مانع له من رؤيته أي عدم رؤيتي إياه مع حضوره لأن سبب ألساتر أم لغيره ثم لاح له أنه غائب فاضرب عن ذلك وأخذ يقول: {أَمْ كَانَ مِنَ الغائبين} كأنه يسأل عن صحة ما لا ح له، فأم هي المنقطعة كما في قولهم إنها لا بل أم شاء.
وقال ابن عطية: مقصد الكلام الهدهد غاب ولكنه أخذ اللازم من مغيبه وهو أن لا يراه فاستفهم على جهة التوقيف عن اللازم وهذا ضرب من الإيجاز، والاستفهام الذي في قوله: {مَالِيَ} ناب مناب الهمزة التي تحتاجها أم انتهى.
وظاهره أن أم متصلة والهمزة قائمة مثام همزة الاستفهام فالمعنى عنده أغاب عني الآن فلم أره حال التفقد أم كان من غاب قبل ولم أشعر بغيبته والحق ما تقدم، وقيل في الكلام قلب والأصل ما للهدهد لا أراد، ولا يخفى أنه لا ضرورة إلى ادعاء ذلك، نعم قيل هو أوفق بكون التفقد للعناية، وذكر أن اسم هذا الهدهد يعفور، وكون الهدهد يرى الماء تحت الأرض رواه ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد. وابن المنذر. وابن أبي حاتم. والحاكم وصححه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأخرج ابن أبي حاتم. وسعيد بن منصور عن يوسف بن ماهك أن ابن عباس حين قال ذلك اعترض عليه نافع بن الأزرق كعادته بأنه كيف ذاك والهدهد ينصب له الفخ ويوضع فيه الحبة وتستر بالتراب فيصطاد فقال رضي الله تعالى عنه إن البصر ينفع ما لم يأت القدر فإذا جاء القدر حال دون البصر فقال ابن الأزرق: لا أجادلك بعدها بشيء ولا مانع من أن يقال: يجوز أن يرى الحبة أيضًا إلا أنه لا يعرف أن التقاطها من الفخ يوجب اصطياده، وكثير من الطيور وسائر الحيوانات يصطاد بما يراه بنوع حيلة.
ويجوز أيضًا أن يراها ويعرف المكيدة في وضعها إلا أن القدر يغلب عليه فيظن أنه ينجو إذا التقطها بأحد وجوه يتخيلها فيكون نظير من يخوض المهالك لظن النجاة مع مشاهدة هلاك الكثير ممن خاضها قبله وإذا أراد الله تعالى بقوم أمرًا سلب من ذوي العقول عقولهم، نعم أن رأيته الماء تحت الأرض وان جاز على ما تقتضيه أصول الأشاعرة أمر يستبعده العقل جدًا ولا جزم لي بصحة الخبر السابق، وتصحيح الحاكم محكوم عليه عند المحدثين بما تعلم، ومثله ما تقدم عن ابن سلام وكذا غيره من الأخبار التي وقفت عليها في هذا الشأن، وليس في الآية إشارة إلى ذلك بل الظاهر بناء على ما يقتضيه حال سليمان عليه السلام إن التفقد كان منه عليه السلام عناية بأمور ملكه واهتمامًا بضعفاء جنده، وكانه عليه السلام أخرج كلامه كما حكاه النظم الجليل لغلبة ظنه إنه لم يصبه ما أهلكه وليكون ذلك مع التفقد من باب الجمع بين صفتي الجمال والجلال وهو الأكمل في شأن الملوك، ولعل ما وقع من حديث النملة كان كالحالة المذكورة له عليه السلام للتفقد.
وعلى ما تقدم عن ابن سلام أن الحالة المذكرة بل الداعية هي النزول في المفازة التي لا ماء فيها، وكون الهدهد قناقنه، ويحكون في ذلك أن سليمان عليه السلام حين تم له بناء بيت المقدس تجهز ليحج بحشره فوافى الحرم وأقام به ما شاء وكان يقرب كل يوم طول مقامه خمسة آلاف بقرة وخمسة آلاف ناقة وعشرين ألف شاة وقال لأشراف من معه أن هذا مكان يخرج منه نبي عربي صفته كذا وكذا يعطي النصر على من عاداه وينصر بالرعب من مسيرة شهر القريب والبعيد عنده سواء في الحق لا تأخذه في الله تعالى لومة لائم قالوا: فبأي دين يدين يا نبي الله؟ فقال: بدين الحنيفية فطوبى لمن آمن به وأدركه فقالوا: كم بيننا وبين خروجه؟ قال: مقدار ألف عام فليبلغ الشاهد منكم الغائب فإنه سيد الأنبياء وخاتم الرسل عليهم السلام، ثم عزم على السير إلى اليمن فخرج من مكة صباحًا يؤم سهيلًا فوافى صنعاء وقت الزوال وذلك مسيرة شهر فرأى أرضًا أعجبته خضرتها فنزل ليتغذى ويصلي فلم يجدوا الماء فكان ما كان.
وفي بعض الآثار ما يعارض حكاية الحج، فقد روي عن كعب الأحبار أن سليمان عليه السلام سار من اصطخر يريد اليمن فمر على مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام فقال: هذه دار هجرة نبي يكون آخر الزمان طوبى لمن اتبعه، ولما وصل إلى مكة رأى حول البيت أصنامًا تعبد فجاوزه فبكى البيت فأوحى الله تعالى إليه ما يبكيك؟ قال يا رب أبكاني أن هذا نبي من أنبيائك ومعه قوم من أوليائك مروا على ولم يهبطوا ولم يصلوا عندي والأصنام تعبد حولي من دونك فأوحى الله تعالى إليه لاتبك فإني سوف أبكيك وجوهًا سجدًا وأنزل فيك قرآنًا جديدًا وأبعث منك نبيًا في آخر الزمان أحب أنبيائي إلى واجعل فيك عمارًا من خلقي يعبدونني وأفرض عليهم فريضة يرفون إليك رفيف النسر إلى وكره ويحنون إليك حنين الناقة إلى ولدها والحمامة إلى بيضها وأطهرك من الأوثان وعبدة الشيطان، ثم مضى سليمان حتى أتى على وادي النمل، ولا يظهر الجمع بين الخبرين، ولعل المقدار الذي يصح من الأخبار أنه عليه السلام لما تم له بناء بيت المقدس حج وأكثر من تقريب القرابين وبشر بالنبي صلى الله عليه وسلم وقصد اليمن وتفقد الطير فلم ير الهدهد فتوعده بقوله:


{لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21)}
{لاعَذّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا} قيل بنتف ريشه وروي ذلك عن ابن عباس. ومجاهد. وابن جريج.
والظاهر أن المراد جميع ريشه، وقال يزيد بن رومان بنتف ريش جناحيه، وقال ابن وهب بنتف نصف ريشه. وزاد بعضهم مع النتف القاره للنمل وآخر تركه في الشمس، وقيل: ذلك بطليه بالقطران وتشميسه وقيل بحبسه في القفص، وقيل بجمعه مع غير جنسه، وقيل بإبعاده من خدمة سليمان عليه السلام، وقيل بالتفريق بينه وبين الفه، وقيل بالزامه خدمة أقرانه. وفي البحر الأجود أن يجعل كل من الأقوال من باب التمثيل وهذا التعذيب للتأديب. ويجوز أن يبيح الله تعالى له ذلك لما رأى فيه من المصلحة والمنفعة كام أباح سبحانه ذبح البهائم والطيور للأكل وغيره من المنافع وإذا سخر له الطير ولم يتم ما سخر من أجله إلا بالتأديب والسياسة جاز أن يباح له ما يستصطلح به. وفي إلا كليل للجلال السيوطي قد يستدل بالآية على جواز تأديب الحيوانات والبهائم بالضرب عند تقصيرها في المشي أو إسراعها أو نحو ذلك. وعلى جواز نتف ريش الحيوان لمصلحة بناء على أن المراد بالتعذيب المذكور نتف ريشه.
وذكر فيه أن ابن العربي استدل بها على أن العذاب على قدر الذنب لا على قدر الجسد. وعلى أن الطير كانوا مكلفين إذ لا يعاقب على ترك فعل إلا من كلف به اه فلا تغفل {أَوْ لاَذْبَحَنَّهُ} كالترقي من الشديد إلى الأشد فإن في الذبح تجريع كاس المنية. وقد قيل:
كل شيء دون المنية سهل ***
{فَأْتُونَا بسلطان مُّبِينٍ} أي بحجة تبين عذرة في غيبته. وما ألطف التعبير بالسلطان دون الحجة هنا لما أن ما أتى به من العذر انجر إلى الاتيان ببلقيس وهس سلطان، قم ان هذا الشق وان قرن بحرف القسم ليس مقسما عليه في الحقيقة وإنما المقسم عليه حقيقة الأولان وأدخل هذا في سلكهما للتقابل. وهذا كما في الكشف نوع من التغليب لطيف المسلك، ومآل كلامه عليه السلام ليكونن أحد الأمور على معنى إن كان الاتيان بالسلطان لم يكن تعذيب ولاذبح وإن لم يكن كان أحدهما فأو في الموضعين للترديد. وقيل: هي في الأول للتخيير بين التعذيب والذبح. وفي الثاني للترديد بينهما وبين الاتيان بالسلطان وهو كما ترى.
وزعم بعضهم أنها في الأول للتخيير وفي الثاني عنى إلا وفيه غفلة عن لام القسم، وجوز أن تكون الآمور الثلاثة مقسمًا عليها حقيقة، وصح قسمه عليه السلام على الاتيان المذكور لعلمه بالوحي أنه سيكون أو غلبة ظنه بذلك لأمر قام عنده يفيدها وإلا فالقسم على فعل الغير في المستقبل من دون علم أو غلبة ظن به لا يكاد يسوغ في شريعة من الشرائع.
وتعقب بأن قوله: {سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الكاذبين} [النمل: 27] ينافي حصول العلم وما حاكاه له. ودفع المنافاة بأنه يجوز أن يأتي بحجة لا يعلم سليمان عليه السلام ولا يظن صدقها وكذبها غير سديد إذ قوله: {مُّبِينٌ} يأباه. وبالجملة الوجه ما ذك أولًا فتأمل. وقرأ عيسى بن عمر {ليأتين} بنون مشددة مفتوحة بغير ياء، وكتب في الإمام {لا} بزيادة ألف بين الذال والألف المتصلة باللام ولا يعلم وجهه كاكثر ما جاء فيه مما يخالف الرسم المعروف، وقيل: هو التنبيه على أن الذبح لم يقع.
وقال ابن خلدون في مقدمة تاريخه: إن اكلتابة العربية كانت في غاية الاتقان والجودة في حمير ومنهم تعلمها مضر إلا أنهم لم يكونوا مجيدين لبعدهم عن الحضارة وكان الخط العربي أول الإسلام غير بالغ إلى الغاية من الاتقان والجودة وإلى التوسط لمكان الغرب من البداوة والتوحش وبعدهم عن الصنائع وما وقع في رسم المصحف من الصحابة رضي الله تعالى عنهم من الرسوم املخالفة لما اقتضته أقيسة رسوم الخطر وصناعته عند أهلها كزيادة الألف في {لا} من قبلة الاجادة لصنعة الخط واقتفاء السلف رسمهم ذلك من باب التبرك. وتوجيه بعض المغلفين تلك المخالفة بما وجهه بها ليس بصحيح. والداعي له إذا ذلك تنزيه الصحابة عن النقص لما زعم أن الخط كمال ولم يتفطن لأن الخط من جملة الصنائع المدنية المعاشية وذلك ليس بكمال في حقهم إذ الكمال في الصنائع إضافي وليس بكمال مطلق إذ لا يعود نقصه على الذات في الدين ونحوه وإنما يعود على أسباب المعاش. وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام أميًا وكان ذلك كما لا في حقه وبالنسبة إلى مقامه عليه الصلاة والسلام. ومثل الأمية تنزهه عليه الصلاة والسلام عن الصنائع العملية التي هي أسباب المعاش والعمران ولا يعد ذلك كمالا في حقنا إذ هو صلى الله عليه وسلم منقطع إلى ربه عز وجل ونحن متعاونون على الحياة الدنيا ومن هنا قال عليه الصلاة والسلام: «أنتم أعلم بأمور دنياكم» انتهى ملخصًا.
وأنت تعلم أن كون زيادة الألف في {لا} لقلة اجادتهم رضي الله تعالى عنهم صنعة الكتابة في غاية البعد، وتعليل ذلك بما تقدم من التنبيه على عدم وقوع الذبح كذلك وإلا لزادوها في {لا} لأن التعذيب لم يقع أيضًا. وما أشار إليه من أن الإجادة في الخط ليس بكمال في حقهم أن أراد به أن تحسين الخط وإخراجه على صور متناسبة يسحسنها الناظر وتميل إليها النفوس كسائر النقوش المستحسنة ليس بكمال في حقهم ولا يضر بشأنهم فقده فمسلم لكن هذا شيء وما نحن فيه شيء، وإن أراد به أن الاتيان بالخط على وجهه المعروف عند أهله من وصل ما يصلونه وفصل مايفصلونه ورسم ما يرسمونه وترك ما يتركونه ليس بكمال فهذا محل بحث ألا ترى أنه لا يعترض على العالم بقبح الخط وخروجه عن الصور الحسنة والهيآات المستحسنة ويعترض عليه بوصل ما يفصل وفصل ما يوصل ورسم ما لا يرسم وعدم رسم ما يرسم ونحو ذلك إن لم يكن ذلك لنكتة.
والظاهر أن الصحابة الذين كتبوا القرآن كانوا متقنين رسم الخط عارفين ما يقتضي أن يكتب وما يقتضي أن لا يكتب. وما يقتضي أن يوصل. وما يقتضي أن لا يوصل إلى غير ذلك لكن خالفوا القواعد في بعض المواضع لحكمة؛ ويستأنس لذلك بما أخرجه ابن الأنباري في كتابه التكملة عن عبد الله بن فروخ قال: قلت لابن عباس يا معشر قريش أخبروني عن هذا الكتاب العربي هل كنتم تكتبونه قبل أن يبعث الله تعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم تجمعون منه ما اجتمع وتفرقون منه ما افترق مثل الألف. واللام. والنون؟ قال: نعم قلت: وممن أخذتموه؟ قال: من حرب بن أمية قلت: وممن أخذه حرب؟ قال: من عبد الله بن جدعان قلت: وممن أخذه عبد الله بن جدعان؟ قال: من أهل الأنبار قلت: وممن أخذه أهل الأنبار؟ قال: من طار طرأ عليهم من أهل اليمن قلت: وممن أخذ ذلك الطارىء؟ قال: من الخلجان بن القسم كاتب الوحي لهود النبي عليه السلام وهو الذي يقول:
في كل عام سنة تحدثونها *** ورأى على غير الطريق يعبر
وللموت خير من حياة تسبنا *** بها جرهم فيمن يسب وحمير
انتهى، وفي كتاب محاضرة الأوائل ومسامرة الأواخر أن أول من اشتهر بالكتابة في الإسلام من الصحابة أبو بكر. وعمر. وعثمان. وعلي. وأبي بن كعب. وزيد بن ثابت رضي الله تعالى عنهم، والظاهر أنهم لم يشتهروا في ذلك إلا لأصابتهم فيها. والقول بأن هؤلاء الأجلة وسائر الصحابة لم يعرفوا مخالفة رسم الألف هنا لما يقتضيه قوانين أهل الخط وكذا سائر ما وقع من المخالفة مما لا يقدم عليه من له أدنى أدب وانصاف.
ومثل هذا القول بأنه يحتمل أنه عرف ذلك من عرف منهم إلا أنه ترك تغييره إلى الموافق للقوانين أو وافقه على الغلط للتبرك، ومن الناس من جوز أن يكون ما وقع من الصحابة من الرسم المخالف بسبب قلة مهارة من أخذوا عنه صنعة الخط فيكون هو الذي خالف في مثل ذلك ولم يعلموا أنه خالف فالقصور إن كان ممن أخذوا عنه وأما هم فلا قصور فيهم إذ لم يخلوا بالقواعد التي أخذوها وإخلالهم بقواعد لم تصل إليهم ولم يعلموا بها لا يعد قصورًا، وهذا قريب مما تقدم إلا أنه ليس فيه ما فيه من البشاعة، ثم أن الإنصاف بعد كل كلام يقتضي الإقرار بقوة دعوى أن المخالفة لضعف صناعة الكتابة إذ ذاك إن صح أنها وقعت أيضًا في غير الإمام من المكاتبات وغيرها ولعله لم يصح وإلا لنقل فتأمل والله تعالى يتولى هداك.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10